المارون سريعًا

    إنهم لا يُريدون هذا الحزن، بل ذاك الذي تعالجه وجبةٌ لذيذةٌ أو كلمةٌ أو مسكنٌ سريعٌ المفعولِ، وسريعُ الزوالِ. حين يقف بهم قطارُ الحياةِ في محطةٍ لا يتخطون حدودَها، فلا تَطَأُ أقدامُهم مدينة تلكَ المحطة؛ يخافون شوارعَها، والتجولَ في حاراتِ كلِ شارع، أن يكتشفوا ما وراء الجمال أو القبح، أن يفهموا بصدقٍ وأن يحسوا بحبٍ وحنو.
    إنهم أَنْفُسَهُم الذين يحبون الغوصَ في البحرِ وضرباتِ أمواجِه؛ قد يَغُرُكَ أنهم عاركوه بأجسادِهم، ولربما أخطأت؛ إذ لم يتأملوه قط، لم يفهموا، أو يحاولوا فَهم هيبته ورعبه برغم جماله، ولم يُحدقوا جيدًا فيه، أو يقفوا ساعة يتتبعون حدودَه إلى أين تنتهي، ولم يفكروا أين تنتهي!
    هم شعبة من البشرِ يمُرون على الأشياء ولا يتأملونها، ينظرون في أَعْيُنِ الناسِ ولا يقرؤونها، لا يفرحون بإخلاص، ولا يُفاوِضون الحزنَ بشجاعة؛ إنهم يخافون التفاصيل، ويخشون العمق في أي شيء، كأنهم لا يُبصرون بأعينهم، ولا يسمعون بآذانهم، ولا يفقهون بقلوبهم. لا يحيون الحياةَ بحق، ولو أنهم قرأوا ما تُخفيه الأَعْيُنُ الحزينةِ، أو استناروا بلمعة أَعْيُنِ السُعَداءِ، لو أنهم وعوا لِمَ يَسكُت الناس أحيانًا كالصخر، أو يقفزون مع قطرات المطر؛ لو أنهم أدركوا كم يحوي قلب الإنسان من أسرار، وأنها تاريخ لم يُسَطَر على ورق، لكنه يتراءى للنظر؛ على قسماتِ الوجهِ، وجفنِ العينِ، ولونِ الخدينِ، وعلى الشفتينِ باسمتينِ أو مُتَيبِسَتينِ، وعلى الظهرِ كيف انحنى همًّا وعجزًا، وكيف استقام عزةً وفخرًا، وعلى أشياء أخرى كثيرةٍ كان الله وحده بها عليمًا.
هؤلاء، يا عزيزي، هم المارون سريعًا، وهم كُثُر.

كتبه: مريم عصام Mariam Essam | LinkedIn

راجعه: أشرف نسيم Ashraf Nisseem | LinkedIn


رسم تعبيري: أمل عبد الدايم

Comments

Popular Posts